فصل: ذكر الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود المؤيد إلى إمارة الأندلس وما كان منه:

قد ذكرنا سبب خلعه وحبسه، فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته، واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته هذه إلى واضح العامري، وأدخل أهل قرطبة إليه، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودعاهم إلى طاعته، والوفاء ببيعته، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط، فأحبه الناس.
ثم نقل إليه أن نفراً من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان، وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد، فأخذهم وحبسهم، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة، فركب الجند وأهل قرطبة وخرجوا إليهم مع المؤيد، فعاد البربر وتبعتهم عساكره، فلم يلحقوهم، وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء.
ثم إن سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه، وبذلوا له تسليم حصون كان المنصور بن أبي عامر قد فتحها منهم، فأرسل ملك الفرنج إلى المؤيد يعرفه الحال، ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر. فاستشار أهل قرطبة في ذلك، فأشاروا بتسليمها إليه خوفاً من أن ينجدوا سليمان، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة. فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا، فنزلوا قريباً من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة، وجعلت خيلهم تغير يميناً وشمالاً، وخربوا البلاد.
وعمل المؤيد وواضح العامري سوراً وخندقاً على قرطبة أمام السور الكبير، ثم نزل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوماً فلم يملكها، فانتقل إلى الزهراء وحصرها، وقاتل من بها ثلاثة أيام. ثم إن بعض الموكلين بحفظها سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه، فصعد البربر السور وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم، وملكوا البلد عنوةً، وقتل أكثر من به من الجند، وصعد أهله الجبل، واجتمع الناس بالجامع، فأخذهم البربر وذبحوهم، حتى النساء والصبيان، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار، فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال.
ثم إن واضحاً كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سراً، ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها، ونمى الخبر إلى المؤيد، فقبض عليه وقتله، واشتد الأمر بقرطبة، وعظم الخطب، وقلت الأقوات، وكثر الموت، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد، لأنهم كانوا قد خربوا البلاد، وجلا أهل قرطبة، وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان.
ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة، وضيقوا عليهم، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيدالله بن محمد بن عبد الجبار، وبايعه أهلها، فسير إليهم المؤيد جيشاً، فحصروهم، فعادوا إلى الطاعة، وأخذ عبيدالله أسيراً، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة.
ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير، وغرق في النهر مثلهم، فرحلوا عنها، وساروا إلى إشبيلية فحصروها، فأرسل المؤيد إليها جيشاً فحماها، ومنع البربر عنها، وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه، فأجابوه وأطاعوه، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح، فملكوها، وغنموا ما فيها، واتخذوها داراً، ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها، وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف، واشتد القتال عليها، وملكها سليمان عنوة وقهراً، وقتلوا من وجدوا في الطرق، ونهبوا البلد وأحرقوه، فلم تحص القتلى لكثرتهم.
ونزل البربر في الدور التي لم تحرق، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله، وأخرج المؤيد من القصر وحمل إلى سليمان، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها.
ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة؛ ثم خرج إلى شرق الأندلس من عنده. وكان ممن قتل في هذا الحصر أبو الوليد بن الفرضي مظلوماً، رحمه الله.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أرسل الحاكم بأمر الله من مصر إلى المدينة، ففتح بيت جعفر الصادق، وأخرج منه مصحف وسيف وكساء وقعب وسرير.
وفيها نقص الماء بدجلة حتى أصلحت ما بين أوانا وقريب بغداد، حتى جرت السفن فيها.
وفيها مرض أبو محمد بن سهلان، فاشتد مرضه، فنذر إن عوفي بنى سوراً على مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فعوفي، فأمر ببناء سور عليه، فبني في هذه السنة، تولي بناءه أبو إسحاق الأرجاني.
وفيها ولد عدنان ابن الشريف الرضي.
وفيها توفي النقيب أبو أحمد الموسوي، والد الرضي، بعد أن أضر ووقف بعض أملاكه على البر، وصلى عليه ابنه الأكبر المرتضى، ودفن بداره، ثم نقل إلى مشهد الحسين، عليه السلام، وكان مولده سنة أربع وثلاثمائة.
وفيها توفي أيضاً أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالأهواز؛ وعمدة الدولة أبو إسحاق بن معز الدولة بن بويه بمصر.
وفيها مرض الخليفة القادر بالله، واشتد مرضه، فأرجف عليه، فجلس للناس وبيده القضيب، فدخل إليه أبو حامد الأسفراييني، فقال لابن حاجب النعمان: اسأل أمير المؤمنين أن يقرأ شيئاً من القرآن ليسمع الناس قراءته؛ فقرأ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اْلمُنَافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ} الآيات الثلاث الأحزاب: 60.
وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر؛ وأبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر، صاحب الطريقة المشهورة في التجنيس، فمن شعره:
يا أيّها السائل عن مذهبي ** ليقتدي فيه بمنهاجي

منهاجي العدل. وقمع الهوى، ** فهل لمنهاجي من هاجي ثم دخلت:

.سنة إحدى وأربعمائة:

.ذكر غزوة يمين الدولة بلاد الغور:

بلاد الغور تجاور غزنة، وكان الغور يقطعون الطريق، ويخيفون السبيل، وبلادهم جبال وعرة، ومضايق غلقة، وكانوا يحتمون بها، ويعتصمون بصعوبة مسلكها، فلما كثر ذلك منهم أنف يمين الدولة محمود بن سبكتكين أن يكون مثل أولئك المفسدين جيرانه، وهم على هذه الحال من الفساد والكفر، فجمع العساكر وسار إليهم وعلى مقدمته التونتاش الحاجب، صاحب هراة، وأرسلان الجاذب صاحب طوس، وهما أكبر أمرائه، فسارا فيمن معهما حتى انتهوا إلى مضيق قد شحن بالمقاتلة، فتناوشوا الحرب، وصبر الفريقان.
فسمع يمين الدولة الحال، فجد في السير إليهم، وملك عليهم مسالكهم، فتفرقوا، وساروا إلى عظيم الغورية المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينته التي تدعى اهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم المسلمون إلى أن انتصف النهار، فرأوا أشجع الناس وأقواهم على القتال، فأمر يمين الدولة أن يولوهم الأدبار على سبيل الاستدراج، ففعلوا. فلما رأى الغورية ذلك ظنوه هزيمة، فاتبعوهم حتى أبعدوا عن مدينتهم، فحينئذ عطف المسلمون عليهم ووضعوا السيوف فيهم فأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في الأسرى كبيرهم وزعيمهم ابن سوري، ودخل المسلمون المدينة وملكوها، وغنموا ما فيها، وفتحوا تلك القلاع والحصون التي لهم جميعها، فلما عاين ابن سوري ما فعل المسلمون بهم شرب سماً كان معه، فمات وخسر الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ}.
وأظهر يمين الدولة في تلك الأعمال شعار الإسلام، وجعل عندهم من يعلمهم شرائعه وعاد؛ ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع عليهم مفازة من رمل، ولحق عساكره عطش شديد وكادوا يهلكون، فلطف الله، سبحانه وتعالى، بهم وأرسل عليهم مطراً سقاهم، وسهل عليهم السير في الرمل، فوصل إلى الكفار، وهم جمع عظيم، ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال صبر فيه بعضهم لبعض، ثم إن الله نصر المسلمين، وهزم الكفار، وأخذ غنائمهم، وعاد سالماً مظفراً منصوراً.

.ذكر الحرب بين ايلك الخان وبين أخيه:

وفي هذه السنة سار ايلك الخان في جيوش قاصداً قتال أخيه طغان خان، فلما بلغ يوزكند سقط من الثلج ما منعهم من سلوك الطرق، فعاد إلى سمرقند.
وكان سبب قصده أن أخاه أرسل إلى يمين الدولة يعتذر، ويتنصل من قصد أخيه ايلك الخان بلاد خراسان، ويقول: إنني ما رضيت ذلك منه؛ ويلزم أخاه وحده الذنب، وتبرأ هو منه، فلما علم أخوه ايلك الخان ذلك ساءه وحمله على قصده.

.ذكر الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل:

في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي، صاحب مصر، بأعماله كلها، وهي: الموصل، والأنبار، والمدائن، والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات العصب. وانهدت بقدرته أركان النصب. وأطلع بنوره شمس الحق من العرب.
فأرسل القادر بالله، أمير المؤمنين، القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر، وولاه قضاء عمان والسواحل. وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.

.ذكر الحرب بين بني مزيد وبني دبيس:

كان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيماً عند بني دبيس في جزيرتهم، بنواحي خوزستان، لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم أحد وجوههم، ولحق بأخيه أبي الحسن علي بن مزيد، فتبعوه فلم يدركوه، وانحدر إليهم سند الدولة أبو الحسن بن مزيد في ألفي فارس، واستنجد عميد الجيوش، فانحدر إليه عجلاً في زبزبة في ثلاثين ديلمياً، وسار ابن مزيد إليهم فلقيهم، واقتتلوا فقتل أبو الغنائم، وانهزم أبو الحسن بن مزيد، فوصل الخبر بهزيمته إلى عميد الجيوش وهو منحدر فعاد.

.ذكر وفاة عميد الجيوش وولاية فخر الملك العراق:

في هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته ثماني سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان عمره تسعاً وأربعين سنة، وتولى تجهيزه ودفنه الشريف الرضي، دفنه بمقابر قريش، ورثاه الرضي وغيره.
وكان أبوه، أبو جعفر استاذ هرمز، من حجاب عضد الدولة، وجعل عضد الدولة عميد الجيوش في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة. فلما استولى الخراب على بغداد، وظهر العيارون، وانحلت الأمور بها، أرسله إليها، فأصلح الأمور، وقمع المفسدين وقتلهم. فلما مات استعمل بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب، فأصعد إلى بغداد، فلقيه الكتاب والقواد وأعيان الناس، وزينوا له البلاد، ووصل بغداد في ذي الحجة، ومدحه مهيار وغيره من الشعراء.
ومن محاسن أعمال عميد الجيوش أنه حمل إليه مال كثير قد خلفه بعض التجار المصريين، وقيل له: ليس للميت وارث، فقال: لا يدخل خزانة السلطان ما ليس لها، يترك إلى أن يصح خبره. فلما كان بعد مدة جاء أخ للميت بكتاب من مصر بأنه مستحق للتركة، فقصد باب عميد الجيوش ليوصل الكتاب، فرآه يصلي على روشن داره فظنه بعض الحجاب، فأوصل الكتاب إليه فقضى حاجته، فلما علم التاجر أن الذي أخذ الكتاب كان عميد الجيوش عظم الأمر عنده، فأظهر ذلك، فاستحسنه الناس، ولما وصل التاجر إلى مصر أظهر الدعاء له، فضج الناس بالدعاء له والثناء عليه، فبلغه الخبر فسره ذلك.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة اشتد الغلاء بخراسان جميعها، وعدم القوت حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، فكان الإنسان يصيح: الخبز الخبز! ويموت، ثم تبعه وباءٌ عظيم حتى عجز الناس عن دفن الموتى.
وفيها مات أبو الفتح محمد بن عناز بحلوان، وكانت إمارته عشرين سنة، وقام بعده ابنه أبو الشوك فسيرت إليه العساكر من بغداد لقتاله، ولقيهم أبو الشوك وقاتلهم قتالاً شديداً، وانهزم أبو الشوك إلى حلوان، وأقام بها إلى أن أصلح حاله مع الوزير أبي غالب لما قدم العراق.
وفيها توفي أبو عبدالله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمرة بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشر سنين، وكان بخيلاً شديد البخل، وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.
وفيها توفي الأمير أبو نصر أحمد بن أبي الحارث محمد بن فريغون، صاحب الجوزجان، وكان صهر يمين الدولة على أخته، وكان هو وأبوه قبله يحبان العلماء ويحسنان إليهم.
وفيها انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه.
وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وغرق كثير من بغداد والعراق، وتفجرت البثوق؛ ولم يحج هذه السنة من العراق أحدٌ.
وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ، سافر الكثير في طلب الحديث، وله عناية بصحيحي البخاري ومسلم؛ وتوفي أيضاً خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو محمد الواسطي، كان فاضلاً، وله اطراف الصحيحين أيضاً. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وأربعمائة:

.ذكر ملك يمين الدولة قصدار:

في هذه السنة استولى يمين الدولة على قصدار، وملكها.
وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة يؤديها إليه، ثم قطعها اغتراراً بحصانة بلده، وكثرة المضايق في الطريق، واحتمى بايلك الخان، وكان يمين الدولة يريد قصدها، فيتقي ناحية ايلك الخان. فلما فسد ذات بينهما صمم العزم وقصدها وتجهز، وأظهر أنه يريد هراة، فسار من غزنة في جمادى الأولى، فلما استقل على الطريق سار نحو قصدار، فسبق خبره، وقطع تلك المضايق والجبل، فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلاً، فطلب الأمان فأجابه وأخذ منه المال الذي كان قد اجتمع عنده، وأقره على ولايته وعاد.

.ذكر أسر صالح بن مرداس وملكه حلب وملك أولاده:

في هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر بن لؤلؤ، صاحب حلب، وبين صالح بن مرداس، وكان ابن لؤلؤ من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فقوي على ولد سعد الدولة وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقبه الحاكم مرتضى الدولة.
ثم فسد ما بينه وبين الحاكم، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع. ثم إنهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس، ودخلوا مدينة حلب، فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقبض عليهم، فقبض على مائة وعشرين رجلاً، منهم صالح بن مرداس، وحبسهم، وقتل مائتين وأطلق من لم يفكر به.
وكان صالح قد تزوج بابنة عم له يسمى جابراً، وكانت جميلة، فوصفت لابن لؤلؤ، فخطبها إلى إخوتها، وكانوا في حبسه، فذكروا له أن صالحاً قد تزوجها، فلم يقبل منهم، وتزوجها، ثم أطلقهم، وبقي صالح بن مرداس في الحبس، فتوصل حتى صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها، واختفى في مسيل ماء.
ووقع الخبر بهربه، فأرسل ابن لؤلؤ الخيل في طلبه، فعادوا ولم يظفروا به. فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه، حتى وصل قريبة تعرف بالياسرية، فرأى ناساً من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق، فجمع ألفي فارس فقصد حلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوماً، فخرج إليه ابن لؤلؤ فقاتله، فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ، وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته. وكان لابن لؤلؤ أخٌ فنجا وحفظ مدينة حلب.
ثم إن ابن لؤلؤ بذل لابن مرداس مالاً على أن يطلقه، فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه، فقالت أم صالح لابنها: قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمله، فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة، فإنه إن أراد الغدر بك لا يمنعه من عندك؛ فأطلقهم، فلما دخلوا البلد حمل ابن لؤلؤ إليه أكثر مما استقر، وكان قد تقرر عليه مائتا ألف دينار، ومائة ثوب، وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب. فلما انفصل الحال ورحل صالح أراد ابن لؤلؤ قبض غلامه فتح، وكان دزدار القلعة، لأنه اتهمه بالممالأة على الهزيمة، وكان خلاف ظنه، فأطلع على ذلك غلاماً له اسمه سرور، وأراد أن يجعله مكان فتح، فأعلم سرور بعض أصدقائه ويعرف بابن غانم.
وسبب إعلامه أنه حضر عنده، وكان يخاف ابن لؤلؤ لكثرة ماله، فشكا إلى سرور ذلك، فقال له: سيكون أمر تأمن معه؛ فسأله، فكتمه، فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر.
وكان بين ابن غانم وبين فتح مودة، فصعد إليه بالقلعة متنكراً، فأعلمه الخبر، وأشار عليه بمكاتبة الحاكم صاحب مصر، وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة بحجة افتقاد الخزائن، فإذا صار فيها قبض على فتح، وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن، ويأمره بفتح الأبواب. فقال فتح: إنني قد شربت اليوم دواء، وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم، فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري؛ وقال للرسول: إذا لقيته فاردده. فلما علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك، فلما صعدت إليه أكرمها، وأظهر لها الطاعة، فعادت وأشارت على أبنها بترك محاقته ففعل، وأرسل إليه يطلب جوهراً كان له بالقلعة، فغالطه فتح ولم يرسله فسكت على مضض لعلمه أن المحاقة لا تفيد لحصانة القلعة، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأن يتمارض، ويظهر شدة المرض، ويستدعي الفتح لينزل إليه ليجعله وصياً، فإذا حضر قبضه. ففعل ذلك، فلم ينزل الفتح، واعتذر، وكاتب الحاكم، وأظهر طاعته، وخطب له، وأظهر العصيان على أستاذه، وأخذ من الحاكم صيدا، وبيروت، وكل ما في حلب من الأموال. وخرج ابن لؤلؤ من حلب إلى إنطاكية، وبها الروم، فأقام عندهم.
وكان صالح بن مرداس قد مالأ الفتح على ذلك، فلما عاد عن حلب استصحب معه والدة ابن لؤلؤ ونساءه، وتركهن بمنبج، وتسلم حلب نواب الحاكم، وتنقلت بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف بعزيز الملك، فقدمه الحاكم واصطنعه وولاه حلب، فلما قتل الحاكم وولي الظاهر عصى عليه، فوضعت ست الملك أخت الحاكم فراشاً على قتله فقتله.
وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق، والرملة، وعسقلان، وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان، وتحالفوا، واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة إلى مصر لحسان، ودمشق لسنان، فسار حسان إلى الرملة فحصرها، وبها أنوشتكين، فسار عنها إلى عسقلان، واستولى عليها حسان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مصر.
وقصد صالح حلب، وبها إنسان يعرف بابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين، وبالقلعة خادم يعرف بموصوف، فأما أهل البلد فسلموه إلى صالح لإحسانه إليهم، ولسوء سيرة المصريين معهم، وصعد ابن ثعبان إلى القلعة، فحصره صالح بالقلعة، فغار الماء الذي بها، فلم يبق لهم ما يشربون، فسلم الجند القلعة إليه، وذلك سنة أربع عشرة، وملك من بعلبك إلى عانة، وأقام بحلب ست سنين.
فلما كان سنة عشرين وأربعمائة جهز الظاهر صاحب مصر جيشاً، وسيرهم إلى الشام لقتال صالح وحسان، وكان مقدم العسكر أنوشتكين البربري، فاجتمع صالح وحسان على قتاله، فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن، عند طبرية، فقتل صالح وولده الأصغر، وأنفذ رأساهما إلى مصر، ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح، فجاء إلى حلب وملكها، وكان لقبه شبل الدولة.
فلما علمت الروم بإنطاكية الحال، تجهزوا إلى حلب في عالم كثير، فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم، ونهبوا أموالهم، وعادوا إلى إنطاكية، وبقي شبل الدولة مالكاً لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فأرسل إليه الدزبري العساكر المصرية، وصاحب مصر حينئذ المستنصر بالله، فلقيهم عند حماة، فقتل في شعبان وملك الدزبري حلب في رمضان سنة تسع وعشرين، وملك الشام جميعه، وعظم أمره، وكثر ماله، وأرسل يستدعي الجند الأتراك من البلاد، فبلغ المصريين عنه أنه عازم على العصيان، فتقدموا إلى أهل دمشق بالخروج عن طاعته، ففعلوا، فسار عنها نحو حلب في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وتوفي بعد ذلك بشهر واحد.
وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة، فلما بلغه موت الدزبري جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها، وحاصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين فبقي فيها إلى سنة أربعين. فأنفذ المصريون إلى محاربته أبا عبدالله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، واختنق منهم بالباب جماعة، ثم إنه رحل عن حلب وعاد إلى مصر، وأصابهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم. فأنفذ المصريون إلى قتال معز الدولة خادماً يعرف برفق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريون، وأسر رفق، ومات عندهم، وكان أسره سنة إحدى وأربعين في ربيع الأول.
ثم إن معز الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم، ولقبوه مكين الدولة، فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين، وسار ثمال إلى مصر في ذي الحجة وسار أخوه أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة، وأقام ابن ملهم بحلب فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.
وسمع ابن ملهم أن بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر ابن صالح يستدعونه ليسلموا البلد إليه، فقبض على جماعة منهم، وكان منهم رجل يعرف بكامل بن نباتة، فخاف، فجلس يبكي، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه: إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا، وأخاف على الباقين. فاجتمع أهل البلد، واشتدوا، وراسلوا محموداً، وهو عنهم مسيرة يومٍ، يستدعونه، وحصروا ابن ملهم، وجاء محمود وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين.
ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة ابن حمدان في عسكرٍ، بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلما قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مائة وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس.
وأما ناصر الدولة فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه، وسار في طلب محمود، فالتقيا بالغنيدق في رجب، فانهزم أصحاب ابن حمدان، وثبت هو فجرح وحمل إلى محمود أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر، فجهز المصريون معز الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حلب في ذي الحجة من السنة، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري، صاحب حران، فجاء إليه، فلما بلغ ثمالاً مجيئه سار عن حلب إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين، وعاد منيع إلى حران، فعاد ثمال إلى حلب، وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا، وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثم انهزم محمود فمضى إلى أخواله بني نمير بحران، وتسلم ثمال حلب في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وخرج إلى الروم، فغزاهم ثم توفي بحلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين، وكان كريماً، حليماً، وأوصى بحلب لأخيه عطية بن صالح فملكها.
ونزل به قوم من التركمان مع ابن خان التركماني، فقوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم، فأمر أهل البلد بذلك، فقتلوا منهم جماعة، ونجا الباقون، فقصدوا محموداً بحران، واجتمعوا معه على حصار حلب، فحصرها وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين.
وقصد عمه عطية الرقة فملكها، ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين، وسار عطية إلى بلد الروم، فمات بالقسطنطينية سنة خمس وستين.
وأرسل محمود التركمان مع أميرهم ابن خان إلى ارتاح، فحصرها وأخذها من الروم سنة ستين، وسار محمود إلى طرابلس، فحصرها، وأخذ من أهلها مالاً وعاد، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان، ومات محمود في حلب سنة ثمان وستين في ذي الحجة، ووصى بها بعده لابنه مشيب، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره، وسلموا البلد إلى ولده الأكبر، واسمه نصر، وجده لأمه الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة ابن بويه وتزوجها عند دخولهم مصر لما ملك طغرلبك العراق.
وكان نصر يدمن شرب الخمر، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه البلد، وهم بالحاضر، يوم الفطر، فلقوه، وقبلوا الأرض بين يديه، فسبهم وأراد قتلهم، فرماه أحدهم بنشابة فقتله، وملك أخوه سابق، وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب، فلما صعد القلعة استدعى أحمد شاه مقدم التركمان، وخلع عليه، وأحسن إليه، وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين، فقصده تتش بن ألب أرسلان، فحصره بحلب أربعة أشهر ونصفاً، ثم رحل عنه، ونازله شرف الدولة، فأخذ البلد منه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ فهذه جميع أخبار بني مرداس أتيت بها متتابعة لئلا تجهل إذا تفرقت.